ليالي رمضان أشبهها بسرب من الطيور البيضاء المهاجرة؛ تتوالي الأخبار
عن قرب مجيئها.. حتى نراها تلوح في الأفق قبيل شهري رجب وشعبان..
ونحن اليوم نعيش في منتصف جمادى الثانية؛ نرى لمعانا في الأفق وشعاعا
تحركه أجنحتها من بعيد.. فلا ندري إلا وقد ملأت سماءنا بأصواتها التي
لا يجاريها إلا تلكم التكبيرات والصلوات طوال ليالي الشهر الفضيل..
فمن سابح مع هذه الطيور يعيش معها سعادته كل ليلة يبيت يناجي خالقه
ويتقرب إليه بالبر والصلوات والصدقات حتى يقترب من الليالي الأخيرة
وقد قرن الليل بالنهار وانخفضت ساعات نومه حتى لكأنها إغفاءة طائر!
كيف لا يفعل ذلك وهذه الطيور الجميلة بدأت تتأهب للطيران من جديد في
موكب مهيب يملأ السماء بألوان جميلة لا ترى إلا قبل ختام الشهر الفضيل..
أما ذلك المقصر الذي ظل ينتظر ليالي رمضان.. فلكأنما على رؤوسهم
الطير -الآن عرفتم أي طير؟- عند حلوله في غفلة مميتة ومن لهو إلى لهو
متسليا بإيذاء الطيور آنفة الذكر بما يمارسه أثناء وجودها من ترهات ربما
لا يتذكر فعلها في أي وقت آخر إلا خلال رمضان؛ وكأنه يستقبل ضيفه
أسوأ استقبال وكأنه لم يكن ممن يتمنى مشاهدة ولو جانب من جمال ليالي
الشهر الفضيل..
في النهاية أو قرب النهاية ستحين لحظة الوداع .. لكن سيء الذكر يعاني
من ضياع الأوقات وتداخل المواعيد. وحتى تلك الشياطين التي خذلته وتركته
طوال رمضان مضلا نفسه بنفسه، فإذا تنبه لأصوات طيورنا وهي تبدأ في
الرحيل إذا بتلك الشياطين تعود من جديد وتغرقه في لجة الوساوس والذنوب
ليعود إلى حاله قبيل الشهر الفضيل..
أما صاحبنا الأول فيغمض جفنيه باسما راضيا حامدا شاكرا مغفورا له ثم
يرفع بصره ملوحا بيده لتلك الليالي الجميلة التي بدأت في الطيران بعيدا وكل
منها يمنحه ابتسامة عن كل ليلة، وكل منها يغدق عليه سيلا من الدعوات
على أمل اللقاء من جديد. وفوقها بقليل يلمح طرفا من الجنان الموعودة بعد
تلك السماوات، ثم لا يلبث أن يشرع في تكبيرات العيد وكله فرح وسرور
ليعود خيرا مما كان قبل الشهر الفضيل.