المدينة شئ خانق لزج !! ..
البيوت الضيقة كالدكاكين ..
والناس المتزاحمون في طوابير يتهامسون في ريبة ويتبادلون الخوف ويتناقلون الأكاذيب ويتعاطون الأقراص المنومة ولا يعرفون للنوم طعما ..
الأشجار الحليقة ..
الوجوه التي غطتها المساحيق ..
الأظافر التي كساها الطلاء ..
الشفاه التي احتجبت خلف بسمات باردة تقليدية لا تدل على شئ ..
اللغة التي أصبحت رخيصة مهلهلة مبتذلة لكثرة ما دخلها من النفاق و التظرف والصنعة ..
الصداقة التي أصبحت حرفة ..
العاطفة التي تحولت إلى طريقة للوصول !! ..
نهازو الفرص الذين انتشروا في كل مكان يطنون كالذباب .. البراءة التي ماتت ..
المرض المزمن الذي أصبح له ألف اسم واسم .. القولون .. القرحة .. الأملاح .. السكر .. الضغط .. الكبد .. الذبحة .. الأرق .. القلق .. وهو مرض واحد اسمه الحقيقي .. المدينة !! ..
كانت هذه الأفكار تراودني وأنا على ارتفاع عشرة آلاف قدم طائرا إلى تنجانيقا .. إلى أفريقيا السوداء ..
كم بدت لي بيضاء في تلك اللحظة .. بيضاء القلب !! ..
كنت أشعر أني مريض بداء مزمن اسمه "المدينة" .. داء عضال .. إدمان لا شفاء منه على اصطناع كل شيء .. اصطناع الكلام .. اصطناع السلوك .. اصطناع التهذب ..
وكان أملي الوحيد في الشفاء .. هو الغابة .. أرتمي في حضنها .. ولا أعود اصطنع شيئا .. لا أتكلم الكلمات المهذبة المنمقة التي اعتدتها في المدن .. ولا أحلق ذقني .. ولا أتكلف الأدب .. وإنما أدع ذلك الريفي الخشن الذي يسكنني يتكلم على سجيته كما يفعل وحش الغاب حينما يعوي في الصباح دون أن يبحث لعوائه عن ديباجة ..